الشروق تحاور ناجحا في البكالوريا نجا بالعبور إلى إسبانيا
جمعت أموال الرحلة من المهنئين بالبكالوريا وكان زادي كيس حليب وحفنة تمر
بعد شيوع خبر عملية الهجرة السرية التي نفذها مؤخرا 3 شبان من مدينة بني صاف في ولاية عين تموشنت، أحدهم ناجح في شهادة البكالوريا شعبة الرياضيات بمعدل12.25، وعقب اتصال هؤلاء بذويهم وتأكيد وصولهم سالمين، تمكنت الشروق من الاتصال هاتفيا عبر تقنية "السكايب" بالشاب "م" الناجح في شهادة البكالوريا لدورة جوان 2009، ورصدت بعض ما جاء في الرحلة، وكذا الأسباب الحقيقية التي دفعت بهم إلى الإبحار نحو المجهول، رغم أنها لم تكن تختلف عن الأسباب التي دفعت بمن قبلهم ومن سيأتون بعدهم لمجابهة الأمواج والمغامرة بالحياة مقابل الوصول للضفة الأخرى
حرمت من الدراسة 15 يوما لأنني لم أستطع شراء كتاب الرياضيات
تفوقت في الدراسة لأن الكل كان يسخر من ثيابي الرثة
لم يتجاوز العقد الثاني من عمره، لكنه كان يستشعر الأعباء التي تراكمت عليه دفعة واحدة. كانت سيرته طيبة وسط أهله وأقرانه، لكنه كان كلما تأمل وضعه انتابته موجة كآبة، لأنه يعرف أنه واحد من أولئك الشباب الذين وجدوا أنفسهم في غفلة من الزمن في وضعية استثنائية، كما أنه يعلم جيدا مصيره إن أكمل دراسته الجامعية، مستشهدا بمن سبقوه؟!
تفتحت أمامه فكرة الهجرة إلى أوربا بشكل لم يتوقعه، كان يعي صعوبة تحقيق هذا الحلم الأوروبي، لكنه بدأ يشعر أنه مقبل على أمر مختلف في حياته.
هكذا بدأ شهادته قائلا "لم تكن إسبانيا تمثل بالنسبة لي حلما لحل معضلة الميزيرية التي أعيش شبحها منذ أكثر من 15سنة، عشت فيها محروما من أبسط ضروريات الحياة، ترعرعت وسط عائلة فقيرة محتقرة من طرف المجتمع البرجوازي إن صح القول"، "هي حقيقة كنت أراها منذ أن بدأت تراودني فكرة الهجرة. التجارب الناجحة لزملائي في الحي كانت تستفزني. الكثير منهم وصل إلى بر اسبانيا، وشرع في العمل، بل منهم من شرع في إرسال أموال وفيرة لأسرته"... تلكم كانت هواجسه الكبرى: أن يصل إلى البر الإسباني ويشرع في العمل، لينقذ عائلته من الميزيرية التي تتخبط فيها، لم يدر بخلده نوعية العمل والمهام التي سيقوم بها. كل ما كان يسعى إليه هو إيجاد المال بأي وسيلة. والعمل بجهد طوال العام حتى يتمكن من العودة في الصيف وقد حقق بعضا من أحلامه. لم يكن يقبل أن يحقق أقرانه ما أرادوا، ويبقى هو على الهامش ولذا ظل يتحين الفرصة إلى أن جاء الوقت المناسب.
الحقرة وراء هجرتي
يقول "م" بعد طول تفكير.. "لم أعرف كيف تم التوسط بيني وبين المسؤول عن عمليات التهريب. لكن في لحظة ما وجدت نفسي في الطريق إلى شاطئ سيدي علي، هناك التقيت مع 9 شباب لم التق بهم في السابق. كانت تجمعنا فكرة واحدة هي الوصول إلى اسبانيا، كان الجو كئيبا ،مشحونا بالتساؤلات والخوف من المجهول: متى ستكون الانطلاقة؟ وهل سنصل إلى بر الأمان؟ ومن هذا ومن ذاك؟.. حدد موعد الانطلاق في فجر الغد. تراجع 4 شبان وعادوا أدراجهم وبقينا ننتظر ساعة الحسم التي تأخرت كثيرا نظرا للحراسة المشددة التي كانت مفروضة تلك الليلة على الشاطئ.
في اليوم التالي، عاد الريّس وأعوانه على سيارة "شوفرولي" حاملا معه 3 أفراد آخرين. وجوه جديدة من تيارت غليزان ووهران. وقيل لنا إن الرحلة الموعودة ستكون بعد العشاء مباشرة. كلّ كان يجمع أمتعته الشخصية. تراجع 5 شبان آخرين، وبقينا نحن 3 شبان، كلنا نعيش أوضاعا مزرية والحڤرة كانت الدافع الأساسي، لأننا همشنا كثيرا من المجتمع. تعرضت لموقفين لن أنساهما طوال حياتي، أذكر مرة أنني طردت من الثانوية بسبب عدم إحضاري لكتاب الرياضيات الذي لم استطع تحصيل ثمنه وحرمت من الدراسة لمدة قاربت 15 يوما بالرغم من أنني قد أخبرت الأستاذ بذلك، الكل كان يسخر من ملابسي الرثة، هذا ما دفع بي إلى الدراسة والتفوق بتقدير جيد، والموقف الثاني الذي لن أنساه أبدا هو أنني في احد الأيام كنت اشتغل في ميناء بني صاف في العطلة الصيفية لجمع بعض السمك من الشباك وإعادة بيعه لكي أقوم بتحصيل مبلغ مالي يمكنني من تسديد مستحقات شهادة البكالوريا وإعانة عائلتي المتكونة من 6 أفراد، تعرضت للإهانة من طرف شرطي وأخذ مني كل السمك".
يأخذ نفسا عميقا و يقول.. "المهم في الليلة الثالثة، وبعد ما بدأ اليأس يتسرب إلينا، طلبوا منا فجأة أن نستعد للانطلاقة، وكانت الانطلاقة بعد منتصف الليل".
نداء نحو المجهول
دفعنا ثمن الرحلة، 7 ملايين سنتيم للفرد الواحد، كل وطريقته في تحصيله، وهنا سألناه: "أخبرتنا سابقا أنك دفعت تكاليف الرحلة بالمال الذي جمعته من الحمادات، أي النساء اللواتي جئن للمباركة بفوزك في الباك، وكذا من اشتغالك بالميناء لمدة عدة أشهر، هل تشترك أنت ورفقائك في هذه النقطة؟"، فابتسم وكأنه يسخر من نفسه وقال: "لا، فكل منا كان له مصدره، فمنهم من حصل على المال من أهله، ومنهم من اقترض المبلغ من أصدقائه، ومنهم من لم يفصح عن مصدر أمواله...".
ثم راح يقول: "لو رأيت المعاناة التي نعيشها لعذرتنا... فنحن نعيش تحت خط الفقر!!"... "خلينا، لنعد إلى موضوعنا... كما أخبرتك أكلنا سوية، وبقينا ننتظر حلول الساعة الثانية ليلا، حينها صلينا، ثم انطلقنا، لنجد أنفسنا فوق الماء على متن قارب مطاطي بقليل من الزاد الذي كان كيس حليب وحفنة تمر لكل واحد منا. بدأت معالم صعوبة الرحلة تتضح، خوف لا يوصف، منا من شرع يتلو القرآن ومنا من خلد إلى الصمت من هول ما يرى، سكون يهز الكون ويرعب القلوب. أنا كنت من الفئة الصامتة، لأني كنت أجهل كل شيء. خائف ومرتعش، ولكن لا مكان للخوف الآن والأعمار بيد الخالق القهار".
البحر أمامنا والفقر وراءنا
"القارب يشق طريقه بصعوبة وسط الأمواج المتلاطمة، التفت يمنة ويسرة، لم أجد غير الماء وصوت المياه التي تقذف بنا. بدت لي اليابسة بعيدة جدا، وبصعوبة فائقة ألمح بقايا ضوء من بعيد. ظل حالنا هكذا طوال الليل. والكل بدأ يتقيأ من دوار البحر. وتارة نفرغ مياه البحر الموجودة في القارب.. لم أجد في هذه اللحظات غير الصمت وتلاوة بعض آيات القران التي كنت أحفظها من سنين في إحدى الزوايا. لحظات عصيبة، كنت أخال فيها أنني أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، 8 ساعات قضيناها على هذا الحال، خارت قوانا واستسلمنا لمصيرنا المحتوم وحنكة الريس. أشار أحدنا إلى وجود أشياء تلمع من بعيد. تبسم الريس وأخبرنا أنها بداية الوصول إلى الديار الإسبانية.. بقينا على هذا الحال ونحن ننتظر إشارة الريس.. أحسسنا بالقارب يرتطم بشيء صلب رفعنا رؤوسنا وأيقنا أننا وصلنا اليابسة. تنفست الصعداء وحمدت الله على النجاة. واستعدت كامل حيويتي وقلت في نفسي: هي ذي البداية في الديار الإسبانية وكل يسير إلى ما قد قُدّر له. كل واحد من الفتية هرع حاملا أمتعته القليلة باتجاه البر، حينها تكلم الريس بعبارة لن أنساها ما حييت قال: المسامحة يا ولاد لبلاد كونو رجال"؟!