الحرب الباردة... كيف بدأت؟ … مرحلة تحطيم التحالف بين الاتحاد السوفيتي والدول العربية
انهار النظام الدولي الأوروبي، مع قيام الحرب العالمية الثانية، وأدت نتائج تلك الحرب إلى تحولات وتغيرات جذرية في صورة توزيع القوى على المستوى العالمي، فقد خرجت الدول الأوروبية (أقطاب النظام القديم ـ دول المحور ودول الحلفاء) من الحرب العالمية الثانية منهكة، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، ومن ثم تراجعت مواقعها في سلم تدرج القوى الدولية، بينما ظهر قطبان عالميان جديدان، هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقد أصبحا في ظل الوضع الجديد، هما وحدهما القادرين على تقرير صورة النظام الدولي كله، بما يملكانه من قدرات فائقة. وهكذا تحول النسق الدولي إلى صورته، التي راحت تعرف بالنظام الدولي ثنائي القطبية بدأت مظاهر العداء بين القطبين تلوح مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد أن انهارت النظم الشمولية، النازية والفاشية، في أوروبا، والتي كانت تشكل خطراً يهدد كلا القطبين، ذلك التهديد الذي كان دافعاً وراء تحالف القطبين خلال فترة الحرب. غير أنه مع زوال ذلك التهديد، ومع إدراك كل من القوتين لحقائق الوضع الدولي الجديد في عالم ما بعد الحرب. بدأ التنافس والصراع بينهما يطفو على السطح مرة أخرى، فبدأت الخلافات بينهما حول اقتسام مناطق النفوذ، واشتدت هذه الخلافات إلى حد الأزمات الدولية التي كادت أن تعصف بالسلم الدولي (مثل الحرب الكورية عام 1950، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962)، لولا الإدراك الواعي من جانب كل من القوتين لمخاطر المواجهة المباشرة بينهما، لا سيما في ظل التقدم التكنولوجي، الذي انعكس بصورة مباشرة على مجال التسلح، فأدى إلى ظهور أنواع جديدة من الأسلحة ذات قدرات تدميرية فائقة، وهي الأسلحة الذرية، مما أدى إلى التحول بالنظام الدولي من توازن القوى التقليدي إلى التوازن القائم على الأسلحة الذرية، وهو ما أصبح يعرف (بميزان الرعب النووي)
كان للخلاف المذهبي بين القطبين أثره البالغ في تعميق هوة الخلاف بينهما، وفي ظهور متغير جديد لعب دوراً مرموقاً في الصراع الدولي، ألا وهو العامل الأيديولوجي، فقد أدى ذلك الخلاف المذهبي إلى انقسام دول العالم المتقدم إلى كتلتين رئيسيتين: الكتلة الغربية "الرأسمالية"، وتتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائها دول غرب أوروبا وكندا واليابان، والكتلة الاشتراكية "الشيوعية"، التي يتزعمها الاتحاد السوفيتي ومن خلفه دول شرق أوروبا. وتتمثل هاتان الكتلتان في كل من حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو.
ويلجأ كل من القطبين في صراعه مع الآخر على أرض العالم الثالث، إلى الوسائل غير المباشرة، تجنباً للاحتكاك المسلح المباشر بينهما. ومن أمثلة تلك الوسائل: الدبلوماسية والدعاية الاقتصادية، وإقامة الأحلاف، ودعم نظم الحكم الموالية، والعمل على إسقاط نظم الحكم المعادية، من طريق إثارة القلاقل والثورات وتدبير الانقلابات والاغتيالات. إلى جانب الحروب بالوكالة، أو اللجوء أحياناً إلى أسلوب التدخل المباشر باستخدام الأسلحة التقليدية، إلى غير ذلك من الوسائل والأساليب، مع مراعاة الحذر والحيلولة دون تصعيد الصراع إلى مستويات الصدام المباشر بين القطبين، كل ذلك نتج عنه ما أُطلق عليه "الحرب الباردة".
ولقد استخدم هذا المفهوم للمرة الأولى من قِبَل الأمير خوان مانوئيل في القرن الرابع عشر، ثم من قِبَل الاقتصادي الأمريكي برنارد بارش Bernard Baruch "1870-1965"، في مطلع عام 1947، وأصبح تعبيراً شائعاً مع الصحفي الأمريكي والتر ليبمان Walter Lippman "1889-1974"، ويفهم منه بصورة عامة وصف حالة التوتر بين الدول الغربية والكتلة الشرقية التي تكونت عام 1945، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
يشير مصطلح "الحرب الباردة"، إلى الصراع على النفوذ الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة، والاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة أخرى. إذ كانت سياسة كل من الفريقين تسعى إلى توسيع دائرة النفوذ وتقليص دائرة الخصم، وحيثما وجد تداخل في دوائر النفوذ، زاد التوتر واشتد الصراع، وربما جرت معارك.
وقد امتد هذا الصراع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في منتصف الأربعينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين. ويمكن النظر إلى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، بأنه نهاية الحرب الباردة، وإن كانت الكثير من الأسس الأيديولوجية لهذه الحرب قد اختفت قبل ذلك. من الممكن القول بأن الحرب الباردة قد بدأت في الساعة 7.02 صباح يوم 7 كانون الاول سنة 1941، حين عبرت أجسام خضراء مجال محطة للرادار، تقع على بعد خمسة وعشرين ميلاً من ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي. وحين ظهرت هذه الأجسام على شاشة الرادار كانت قوات الجو اليابانية تتحرك تجاه الأسطول الأمريكي المخصص لمنطقة الباسيفيكي، وكان راسياً في هذا الميناء. ولم تكد تمضي ساعتان على اتجاهها نحو هذا الأسطول، حتى كانت جميع هذه السفن الحربية تستقر في قاع الميناء. وبذلك دخلت الولايات المتحدة الأمريكية خضم معارك الحرب العالمية الثانية. وقد أدت احتياجات وضغوط هذه الحرب إلى ظهور بشائر القنابل النووية، التي حددت بعد ذلك اتجاهات الحرب الباردة واتجاهاتها المضادة.
ويمكن القول كذلك بأن الحرب الباردة قد بدأت من قاعة الحفلات في قصر ليفاديا، المقر الصيفي السابق لقيصر روسيا في مدينة يالتا Yalta بمنطقة القرم. فقد اجتمع كل من رئيس الوزراء السوفيتي "جوزيف ستالين"، ورئيس الوزراء البريطاني "ونستون تشرشل"، والرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت"، هناك في الفترة من الرابع إلى الحادي عشر من فبراير سنة 1945، للبحث في طبيعة السلام الذي يجب أن يسود في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكن السلام لم ينشأ في مؤتمر يالتا، بل لعل العكس هو الصحيح. لقد بدأت الحرب الباردة أثناء الحرب العالمية الثانية، نتيجة للقوى الكامنة في تاريخ كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت الحرب قبل أن تتهيأ لها من الناحية النفسية، إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إليها في رعب، وحين دفع هتلر ألمانيا عام 1939 لدخول الحرب ضد فرنسا، وبريطانيا وبولندا، لم تكن الولايات المتحدة على استعداد لدخولها، لأن الميل إلى العزلة كان قوياً لدى مؤسسات الدولة، كما أن غالبية الأمريكيين يشعرون بأن الحرب ضد النازية ليست حربهم
وفي يوليه 1945 ـ أي بعد خمسة أشهر على مؤتمر يالتا ـ جرى تفجير القنبلة الذرية فوق رمال نيوميكسيكو البيضاء. وفي 6 أغسطس 1945، قامت طائرة أمريكية بالتسلل إلى هيروشيما في اليابان وألقت قنبلة أدت إلى انفجار مروع، قُتل وفُقد وأُصيب فيه نحو 129558 نسمة، وكان هذا السلاح أقوى الأسلحة التي عرفها الإنسان في تاريخه
لقد انتهى الرايخ الألماني الثالث بانتهاء ألمانيا النازية في عام 1945، وبانتحار هتلر في 30 أبريل 1945، انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وبعد ثلاثة شهور أنهت القنبلة الذرية الحرب في آسيا. وهكذا انتهى الصراع العسكـري، بعد أن خلف وراءه جراحاً داميـة، وخرابـاً ينتشر في كل مكان
لقد أحدثت الحرب تغييرات أساسية في الوضع الدولي تتلخص في الآتي:
1. نظام الحكومات الأوروبية القديم الذي ضعضعته أحداث الحرب العالمية الأولى، قد قضي عليـه تماماً بعد الحرب العالمية الثانية. فانتهت فرنسا ـ بعد الحرب مباشرة ـ بوصفها دولة كبرى في العالـم، ودب الضعف في النفوذ البريطاني في العالم، ولم تعد بريطانيا قادرة على اتباع سياستها التقليدية، التي تقوم على توازن القوى، عندما كان لها الكلمة النافذة في هذا الشأن بين دول القارة.
2. أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي الدولتان الوحيدتان اللتان ترسمان سياسة العالم، وتتنافسان على السيطرة عليه، بعد أن كانت هذه الصفة مقصورة على الدول الأوروبية الغربية فقط. وزاد من قوة نفوذهما أنهما تزعمتا العالم في أبحـاث الذرة والتقدم التكنولوجي.
3. اكتُشفت أسلحة جديدة قلبت النظم العسكرية القديمة وأحدثت ثورة في الأفكار القديمة المتعلقة بالجغرافيا العسكرية. إذ أصبحت الدول الصناعية المنيعة في الغرب، وعلى الأخص بريطانيا، عرضة للهجوم والتدمير في عصر السلاح الذري.
4. انتعاش القومية وانتشارها في بلاد آسيا وأفريقيا، ومطالبتها بحق تقرير المصير وإنهاء الاستعمار وذلك أدى إلى تغيير الوضع السياسي والاقتصادي السائد فيها.
نظريات الحرب الباردة:
هناك ثلاث نظريات تاريخية للحرب الباردة:
1. نظرية المحافظين:
الذين يلقون باللوم على روسيا بأنها هي الدولة التي بدأت الحرب الباردة، وذلك باستيلائها على شرق أوروبا، ومحاولتها في عام 1948م السيطرة على برلين الغربية، بعد برلين الشرقية.
2. نظرية الناقضين:
الذين ينقضون نظرية المحافظين، ويقولون إن أمريكا وبريطانيا هما اللتان بدأتا الحرب الباردة، وذلك بأنهما قد أعطتا روسيا شرق أوروبا مناطق للنفوذ، وذلك في مؤتمر يالتا عام 1945م. وفتحتا الجبهة الغربية ضد ألمانيا، إذ فسّر السوفيت ذلك بأنهما كانتا تريدان إنهاك روسيا وألمانيا معًا، ثم تدخلان منتصرتين دون خسائر إلى ألمانيا.
3. نظرية الليبراليين "المتحررين":
الذين يرون أن الحرب الباردة كانت حتمية تاريخية، وذلك لأن كلاًّ من الدولتين العظميين لها أيديولوجية مختلفة. فمثلاً، أمريكا، وهي قائدة المعسكر الغربي، تؤمن بالرأسمالية وبسياسة الباب المفتوح، بينما كانت روسيا، وهي قائدة المعسكر الشرقي تؤمن بالاشتراكية، لذلك كان حتمًا أن يتصارع المعسكران على مناطق نفوذ خاصة.
معاهدات السلام 1945-1947
لم يستطع الحلفاء أن يستقروا على وضع أنظمة خاصة للبلاد التي زالت حكوماتها والتي خضعت لهتلر زمناً طويلاً. فلم تعد في برلين حكومة ألمانية يعترف بها الحلفاء، كذلك كان الموقف في فينا، وبودابست وبوخارست وصوفيا، حيث تحطمت حكوماتهـا التي تعاونت مع النازية، ولم يعـد هناك غير القـوات الروسية التي انتشـرت في تلك العواصـم، وأصبـح الأهالي حيارى لا يدرون ماذا يفعلون.
لقد كانت الدول المنهزمة في الحرب العالمية الثانية في أشد الحاجة إلى حكومة وزعماء يملئون الفراغ المخيف الذي تجلى بعد الحرب، ولكن الأمر كله كان بيد الحلفاء، الذين كان همهم الأول هو تكوين حكومات عسكرية تدير شؤون البلاد التي انقسمت إلى مناطق احتلال روسية وأمريكية وفرنسية وبريطانية. ولم يكن من السهل التوصل إلى اتباع نظام خاص يصلح لحكم تلك البلاد في تلك الظروف الحرجة. وكان من الطبيعي أن يحتفظ الحكام العسكريون في تلك المناطق ببعض الموظفين المحليين ورجال الشرطة وموظفي المرافق العامة، الذين كانوا يخدمون النظم السابقة، مهمـا كانت صفتهم المذهبية السابقة. وكان المهم لدى سلطات الاحتلال هو العمل على حفظ النظام، ووضـع الأسس اللازمة لإعادة الحياة إلى تلك المدن والقرى المدمرة، وتوفير الوقود والطعام، ومنع ظاهرة السلب والنهب التي انتشرت في تلك الأيام المظلمة، وإصلاح الطرق ومرافق المياه، وإسكان آلاف المشردين الذين تحطمت مساكنهم. وقد نجح الحكام العسكريون إلى حد كبير في مهمتهم الدقيقة.
ولكن المشكلة الكبرى التي لم يجد لها المنتصرون حلاً مرضياً هي ضمان نجاح الحكومات المحلية التي أقاموها في بلاد الأعداء. فقد تكونت في عام 1945 حكومات مؤقتة، ولكن رؤساءها لم يكونوا في نظر شعوبهم سوى آلات في أيدي سلطات الاحتلال، إلا أنهم كانوا على كل حال وسطاء بين شعوبهم البائسة، وتلك السلطات الطاغية، وكان هؤلاء الرؤساء المحليون زعماء ذوي سلطة محدودة، لا يستطيعون إزاء الأزمات التي تثور بين الشعب وحاكميه العسكريين الأجانب إلا أن يطيعوا الجانب الأقوى وإلا فقدوا وظائفهم، ولذلك لم يستطع أولئك الذين عارضوا سلطات الاحتلال البقاء في الحكم سوى شهور قليلة. وقد تحكمت ظروف الاحتلال في أوروبا في النظم التي اختارتها الشعوب لنفسها فيما بعد، فالبلاد التي وقعت في منطقة الاحتلال السوفيتي تأسست فيها حكومات أحرزت كل تأييد من حكومة الاتحاد السوفيتي، أما تلك الدول التي رفضت الشيوعية، كاليونان والنمسا، فقد كانت تتطلع إلى مساعدة لندن وواشنطن. ونتج عن هذه الأوضاع الأوروبية أن بنود المعاهدات، ومدى ما تدفعه تلك الدول المنهزمة من التعويضات، وما ستكون عليه حدودها الجديدة، يتوقف كله على قرارات الدول الكبرى، التي كانت تسعى كل منها لمساعدة من تراه أقرب إلى صفها، وقد أدركت شعوب أوروبا في ذلك الحين مدى الخلاف الذي بدأ يظهر بين الاتحاد السوفيتي وحلفائه الغربيين خلال عامي 1945 و1946، ولكن معظم هذه الشعوب لم تكن في وضع تستطيع فيه أن تستفيد من هذا الخلاف. إلا دولة واحدة من هذه الدول استطاعت فعلاً أن تستفيد، وهي فرنسا التي حصلت على كميات كبيرة من الحبوب من روسيا، وعلى قرض كبير من الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت نفسه. ذلك لأن الدول الكبرى لا تستطيع أن تعتبر فرنسا هي حكومة فيشي Vichy، بل اعتبرتها إحدى الدول الكبرى الأربع التي يجب أن يكون لها صوت في مجلس وزراء الخارجية. مجلس وزراء الخارجية: وكان الأقطاب الثلاثة، روزفلت وتشرشل وستالين، قد تفاهموا على الخطوط العريضة لإرساء قواعد السلام، وذلك أثناء اجتماعاتهم في طهران "كانون الاول 1943"، وفي يالتا "شباط 1945"، وفي بوتسدام Potsdam بعد تسليم ألمانيا وقبل إعلان استسلام اليابان "تموز- اب 1945". ولكن وجوه الأقطاب تغيرت بعد وفاة روزفلت في 12نيسان 1945، وتعيين كلمنت أتلي زعيم حزب العمال بدلاً من تشرشل رئيساً للوزارة البريطانية، ولكن الأهداف ظلت واحدة. وقد أعلن الرئيس ترومان، ورئيس الوزراء أتلى، والمارشال ستالين في 2 أغسطس 1945، اتفاقهم على إنشاء مجلس لوزراء الخارجية، يعهد إليه مهمة وضع معاهدات السلام، ويحضره وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وروسيا، وفرنسا، والصين. ولكن الواقع أن ممثلي الدول الثلاثة الأولى هم أصحاب الحل والعقد في تقرير مواد المعاهدات، إذ لم يشترك وزير خارجية الصين في التسوية، أما ممثل فرنسا فلم يكن يدعى لكل الاجتماعات. وقد اجتمع مجلس وزراء الخارجية حوالي مائة مرة، في لندن، وفي موسكو، وفي نيويورك، وفي باريس. وفي كل مرة يكون الاجتماع حافلاً بالخبراء ممثلي الدول الأخرى، التي يقتضي الحال دعوتهم للاشتراك في مناقشة المسائل التي تخص بلادهم. على أن رأيهم كان استشارياً ولا يلزم المجلس بشيء، لأن وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا هم أصحاب الرأي الأخير في وضع الصيغ وتنظيم التسويات. وبذلك أصبح مصير العالم كله معلقاً في أيديهم. وكان الوزراء الثلاثة من أكفأ الساسة في بلادهم: أولهم الوزير الأمريكي جيمس فرنسيس بيرنز، وثانيهم الوزير الإنجليزي إيرنست بيفن، وثالثهم الوزير الروسي مولوتوف.
وقد عقد أول اجتماع لمجلس وزراء الخارجية في لندن، من 11 سبتمبر إلى 3 أكتوبر 1945، وكان اجتماعاً فاشلاً، إذ اختلف كل من الممثل الأمريكي والإنجليزي مع الممثل الروسي، واتهمت الدولتان الغربيتان الاتحاد السوفيتي بوضع العراقيل في سبيل المفاوضات. وأخيراً اتفقت الأطراف المعنية على عقد المؤتمر الثاني في موسكو في شهر مايو 1946، دون أن تمثل فيه فرنسا والصين، وبعد اجتماعات دامت أسبوعاً، أعلن المؤتمر "24 ديسمبر 1945"، عن الاتفاق على عقد مؤتمر للسلام تمثل فيه إحدى وعشرون دولة، واتفق من حيث المبدأ على وضع خطط للحكم في اليابان، وكوريا، ورومانيا، وبلغاريا، وانسحاب القوات الروسية والأمريكية من الصين، ووضع صيغ للمعاهدات الخاصة بالدول الأوروبية. وقد كان الممثل الروسي مولوتوف يعارض اشتراك وزير خارجية فرنسا في اجتماعات مجلس وزراء الخارجية، ولكن أمكن الوصول إلى تفاهم مع الاتحاد السوفيتي حول هذا الموضوع، وسحب مولوتوف اعتراضه بعد أن أعلن جيمس بيرنز أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر في عقد قرض كبير "مقداره بليون دولار" للاتحاد السوفيتي، على ذلك اجتمع الوزراء الأربعة في باريس، من 25 أبريل إلى 16 مايو 1946، ومثل فرنسا في هذا الاجتماع جورج بيدو. وتجلت الخلافات بين أعضاء المجلس في أجلى مظاهرها حول توزيع المستعمرات الإيطالية، ومصير تريست، وموقف الحلفاء تجاه حكومة فرانكو في أسبانيا، وحرية الانتخابات التي وعد بها الشعبان الروماني والبلغاري. على أن اقتراب موعد عقد مؤتمر السلام، المقرر عقده في 29 يوليه، والذي ستمثل فيه 21 دولة، جعل أعضاء مجلس وزراء الخارجية يحاولون التوصل إلى اتفاق فيما بينهم على وضع صيغ مبدئية للمعاهدات التي ستعرض على المؤتمر، وفي 12 يوليه انفض الاجتماع بعد أن أعلن أعضاء المجلس أنهم توصلوا إلى اتفاق حول المسائل المهمة، وكان القصد من ذلك عدم إتاحة الفرصة للشعوب الصغيرة أن تنتهز فرصة الخلاف بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية الكبرى لمحاولة الاشتراك الفعلي في وضع صيغ المعاهدات. وقد عرض على أعضاء مؤتمر السلام في 30 يوليه التسويات التي وضعها مجلس وزراء الخارجية لكل من إيطاليا، وفنلندا، والمجر ورومانيا، وبلغاريا. وكانت كلها بطبيعة الحال تسويات مفروضة قبلتها الدول الضعيفة صاغرة في ذلك الحين. وعندما انفض مؤتمر باريس في 15 أكتوبر 1946، لم تكن القرارات التي اتخذت نهائية ولا جماعية، وقد ظهر مدى الخلاف بين الشرق والغرب. فقد استطاع الغرب أن يضمن تصويت خمسة عشر عضواً ضد الدول السلافية الستة، أي الاتحاد السوفيتي وروسيا البيضاء وأوكرانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيـا، ومنذ ذلك الحين ظهر في أوروبا الانقسام بين الكتلة السوفيتيـة والكتلة الغربية. وتبعاً لسلوك تلك الدول الأوروبية، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة الثواب والعقاب، فأخطرت تشيكوسلوفاكيا أن القرض الذي وعدتها به، وقدر بخمسين مليون دولار، قد تأجل دفعه لها، بينما منحت تركيا التي طالما رفضت الإذعان للضغط الروسي، قرضاً قدره خمسة وعشرون مليون دولار، أما النمسا التي رفضت أن تسير في ركاب السياسة الشيوعية، فقد كوفئت في أكتوبر 1946 بأن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اعتبارها دولة محررة، وليست من الأعداء السابقين. كذلك حصلت إيطاليا على قرض أمريكي قدره خمسون مليون دولار لعجـز الشيوعيين هناك عن كسب أي تأييـد حكومي أو شعبي. وبعد انتهاء مؤتمر مجلس وزراء الخارجية، تقرر أن يجتمع المجلس في دورته الرابعة في نيويورك في 4 نوفمبر 1946. ولكن ظلت سحابة الخلاف تخيم على أجواء السياسة الدولية، وقد أظهرت الانتخابات الأمريكية، التي جرت في نوفمبر وأتت إلى الحكم بالحزب الجمهوري ـ الذي كانت مبادئه عدم التهاون مع الروس ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل على موقفها من معارضة السياسة الروسية، مما جعل الروس يقتنعون بأن من مصلحتهم السعي إلى تخفيف حدة التوتر والوصول إلى حلول يرضي عنها حلفاؤهم الغربيون، ولكن ظلت أزمة الثقة محتدة بين الكتلتين. وتعتبر فترة بداية الحرب الباردة "1945- 1947" مرحلة انتقالية، تحطـم أثناءهـا الحلف الكبير بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية. وهو الحلف الذي أطلق عليه The Grand Alliance.
تقسيم ألمانيا: كان أول سؤال فرض نفسه على الحلفاء المنتصرين هو مصير ألمانيا وكان الأقطاب الثلاثة: تشرشل وروزفلت وستالين، قد توصلوا إلى اتفاق مؤقت حول تقسيم ألمانيا، كان ذلك في مؤتمر يالتا في فبراير 1945، وعندما انتهت الحرب نهائياً، في صيف ذلك العام في غيبة روزفلت، الذي تُوفي وتولى الرئاسة بعده نائبـه هاري ترومان، جاء دور الاتفاق النهائـي في بوتسدام. وفي هذا المؤتمر اتفق الأقطاب ـ هاري ترومان وستالين واتلي ـ على أن تمتد الحدود الشرقية لألمانيا، على طول الخط الذي يوازي نهري أودر Oder ونيسه Neisse، وتستولي روسيا على نصف بروسيا الشرقية، وتستولي بولندا على دانتزج وسيلزيا العليا والسفلى وبراندنبرج الشرقية ومعظم أراضي بوميرانيا، والنصف الجنوبي من بروسيا الشرقية. وتعاد أرض السوديت إلى تشيكوسلوفاكيا، أما في الغرب فقد أعيدت الألزاس واللورين إلى فرنسا، ومالمدي ويوبن إلى بلجيكا. ثم جاء الدور على ما تبقى من أرض الرايخ عندما انهزم الألمان نهائياً. قسم الحلفاء ألمانيا إلى أربع مناطق احتلال تبعاً للوجود الأجنبي العسكري في كل قطاع، وعلى ذلك احتل البريطانيون القطاع الشمالي، واحتل الأمريكيون القطاع الجنوبي، واحتل الروس القطاع الشرقي، واحتل الفرنسيون القطاع الغربي، أما العاصمة برلين، التي كانت في قلب القطاع الروسي فقد اتفق الحلفاء على تقسيمها إلى أربع مناطق احتلال. على أن تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق منفصلة تتميز كل منها بحكومتها العسكرية، ونظامها الاقتصادي وإدارتها المختلفة لم يكن في نظر الحلفاء أمراً طبيعياً وتبين للأمريكيين والبريطانيين بعد عام من تلك التجربة أن من الخير لهم توحيد الإدارة في قطاعاتهم، ثم دعوا الفرنسيين إلى الانضمام إليهم في هذا السبيل، ولما نُفذ هذا التوحيد الغربي، تجلى الرايخ الألماني وكأنه قطاعان اثنان، قطاع شرقي يسيطر عليه الاتحاد السوفيتي، وقطاع غربي تسيطر عليه الدول الغربية. ولكن الروس لم يكونوا سعداء بهذه البادرة الأمريكية، لأنهم أدركوا أن الألمان في القطاع الشرقي الروسي سيشعرون بالمرارة لأن مواطنيهم في القطاعات الغربية قد التأموا وحققوا نوعاً من الوحدة. لذلك وافق الروس في ديسمبر 1946 على الاشتراك في مناقشة بعض المشروعات الرامية إلى خلق وحدة اقتصادية تشمل مناطق الاحتلال، إلا أن التوتر ظل على أشده بينهم وبين المعسكر الغربي، واحتد الحوار بين الفريقين حتى استحال التفاهم بين السياستين. ولم يستطع الحلفاء وضع سياسة شاملة لألمانيا بسبب الخلاف الذي كان ينشب بين الحين والآخر بين الغرب والاتحاد السوفيتي. وسار كل قسم من ألمانيا في اتجاه خاص، تبعاً لعلاقة ألمانيا الاتحادية بالحلفاء الغربيين، وعلاقة ألمانيا الشرقية بالاتحاد السوفيتي.
ازدياد الخلاف:
وفي مؤتمر بوتسدام رفض ستالين إجراء انتخابات في دول أوروبا الشرقية، لأنه اعترف أن مثل هذه الانتخابات قد تنتهي إلى انتصارات معادية للاتحاد السوفيتي، وصمَّم على أن المصالح القومية تتطلب أنظمة تقوم على الصداقة، على الأقل، في كل من بولندا وبلغاريا ورومانيا والمجر. وقد أدى هذا الانتهاك لاتفاقيات يالتا إلى خلق روح من التباعد بين المعسكرين. واتسعت الهوة في سبتمبر 1945، حين اجتمع مجلس وزراء الخارجية في لندن، واستمر الاتحاد السوفيتي ـ الذي كان يمثله مولوتوف ـ في عدم التعاون مع الغرب بشأن الوضع في أوروبا الشرقية، وذلك لأنه كان يرغب في خلق حلقة من الدول التي تدور في فلكه، وفي مقابل ذلك كانت الدول الأربع الأخرى تزداد اقتراباً وتماسكاً لتقف معارضة للاتحاد السوفيتي. وحين شاهد الاتحاد السوفيتي تطور هذا الانحياز طلب استبعاد كل من فرنسا والصين من المباحثات السياسية الكبرى، نظراً لأنهمـا لا تصلان إلى مستوى قوة الدول الثلاث المتحالفة الأخرى، ولما أدرك الاتحاد السوفيتي أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لن توافقا على هذا الاتجاه أوقف المؤتمر فجأة. وبعد هذه اللحظة ازداد موقف الولايات المتحدة الأمريكية صلابـة من الاتحاد السوفيتي. واصطدم ترومان ببيرنز الذي كان يطالب، حتى هذه اللحظة، باتباع طرق ووسائل التوفيق، وتحول إلى رئيس أركان الحرب الأدميرال وليام ليهي يطلب تأييده، وقال له: "شدد قبضتك على روسيا". وبدأت زعامة الجمهوريين في الكونجرس تطالب بسياسة أكثر شدة، كما بدأ المتحدث بلسان السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، جون فوستر دالاس John Foster Dalles، يحذر من أن مبادئها ومثالياتها سوف تتعرضان سريعاً للتحديات الروسية. وأخذت السياسة المحلية للحزب الديموقراطي تؤيد كل تعقيد للمشكلة، كما شعر الجمهوريون أنهم يستطيعون كسب تأييد جانب من المجموعات الديمقراطية من الأوروبيين الشرقيين، والكاثوليك الموجودين في الولايات المتحدة الأمريكية للاحتجاج على سياسة روزفلت تجاه بولندا. ولكن الحزبين لم يهتما كثيراُ بالوسائل التي يمكن اتباعها لزيادة التشدد مع الاتحاد السوفيتي. وكانت عملية تسريح القوات قائمة على قدم وساق، ومستمرة بسرعة كبيرة، حين وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تدخل في عداوات شفوية متزايدة مع روسيا، وتجد نفسها عاجزة بصورة واضحة كذلك عن استخدام القوة لتحقيق فاعلية مطالبها. وكان ستالين يتحرك دون أن يهتز تجاه تحقيق أهدافه في الدول التابعة له في أوروبا الشرقية، ودون الاهتمام بنداءات الأمريكيين المتكررة لاتبـاع قواعد الأخلاق الدولية، وذلك لأنه كان يقيس القوة والسلطة على أساس عدد الوحدات التي يمكن أن تصنعها الأمة في الميدان. وكان ونستون تشرشل على حذر دائم من أن الاتحاد السوفيتي لم يكن سوى حليف وقت الحرب فقط، بسبب الظروف، وليس بسبب الاقتناع؛ ولذلك فقد كان يحذر دائماً من الاعتماد على تصريحات السوفيت. وبالرغم من أن تشرشل كان قد خرج من الوزارة، فقد بقيت السياسة البريطانية كما هي دون تغيير. أما وزير الخارجية الجديد ايرنست بيفن الذي حل محل تشرشل في مؤتمر بوتسدام فقد كان غير مبال بالسوفيت، وكان ينظر إلى الدكتاتورية الشيوعية على أنها حركة خانت قضية العمال، واتجهت إلى التطرف اليساري على الرغم من أنه كان اشتراكياً.
مظاهر الصراع خلال الفترة من 1945-1947
1- أن الاتحاد السوفيتي وسع حدوده غرباً حتى ضمت بلاداً يسكنها 21 مليون نسمة، لم يكونوا تابعين للاتحاد السوفيتي قبل عام 1939.
2. عزم الاتحاد السوفيتي على تأمين حدوده الغربية بالسيطرة الكاملة على دول شرق أوروبا، التي تقع على تلك الحدود، والتي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من مائة مليون نسمة. وذلك بالعمل على إيجاد حكومات موالية تطبق النظام الشيوعي. وقد طُبق ذلك في نهاية عام 1945، حيث أقيم النظام الموالي لروسيا في رومانيا، وبلغاريا، ويوغسلافيا وألبانيا. وفي عام 1947 أقيم في المجر وبولندا، وبقيت تشيكوسلوفاكيا محتفظة بنظامها الديموقراطي فترة من الزمن إلى أن حدث الانقلاب الشيوعي فيها في 25 فبراير 1948.
3. العمل على الحصول على أكبر قدر من التعويضات من ألمانيا، لإصلاح الدمار الذي نتج عن عدوان هتلر على الأراضي الروسية.
4. العودة إلى تدعيم الشيوعية لمجابهة العالم الرأسمالي وذلك بالعمل على تنفيذ خطـة الخمس سنوات، التي تهتم أكبر اهتمام بتدعيم الصناعات الثقيلة، وتسليح روسيا بالأسلحة الذرية، مما يستدعي بطبيعة الحال شد الأحزمة على البطون وتكريس الجهود العقلية والفكرية للاختراع والابتكار في هذا السبيل