الإنسان يحب الدنيا ويحرص على المال , قال الله تعالى :(( زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب )) [ آل عمران 14] . وسبب ذلك أن الإنسان يشتهي ما يتلذذ به وقد وجد لذته العاجلة في الدنيا وزخارفها , ولذة الدنيا تؤثر في طالبها فيصغر أمامها حتى يكون كالطفل المفتون ببريق النار الذي فيه حتفه وهو لا يعرف منه إلا ضوءه الجذاب و وكذلك الدنيا ؛ لأنها حلوة مزخرفة , فلا يشبع منها طالبها كما لا يشبع من المال الحرام صاحبه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو , ومن أخذه بغير حقه كان الذي يأكل ولا يشبع " .[ رواه البخاري ومسلم ] .
وينظر ضعيف الإيمان ومحب الدنيا إلى ما يتقلب فيه الكفار من نعيم الدنيا , فيتمنى مكانتهم وينبهر بطرق معيشتهم ويودّ لو كان معهم , كما أخبر الله عن قوم قارون حين رأوه في أبهى زينة , فقال : (( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل مآ أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم )) [ القصص 79 ] , هذا تصور من يعيش للدنيا ولا يفكر في زوالها وسرعة انتقالها وقلة وفائها وتحقق مللها , لا سيما إذا امتحن الله العباد بأن أراهم من بلاد الكفار خضرة جذابة , ومياهها عذبة ومناظر خلابة , ومناخا مناسبا لراحة الجسم , أما قوي القلب ذو الإيمان الصادق فإنه لا يلتفت إلى شيء من ذلك ؛ لأنه يقرأ قول الله تعالى :(( لا يغرنّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )) [ آل عمران 196- 197 ] , ويغض طرفه عن ذلك كله , لأنه يقرأ قوله تعالى :(( ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )) [ طه 131 ] , ويعلم علم يقين أنّ ذلك لا يعد في حقيقته لهم خيرا ؛ لأنه يقرأ قوله تعالى :(( أتحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون )) . [ المؤمنون 55-56 ]
وكيف يكون ذلك لهم من الخيرات وقد جعل الله فيه عذابهم ؛ قال تعالى :(( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )) [ التوبة 55 ] وقال : (( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم )) [ محمد 12 ] , وقال : (( ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )) [ آل عمران 187 ] , فتبا لزخرف بدؤه عذب وانتهاؤه عذاب , وكذلك كل من يتمتع بالدنيا وهو يعصي ربه الذي يؤتيه من الدنيا , فإن متعة الدنيا التي هو فيها استدراج من الله حتى إذا أخذه أخذا أليما ؛ فعن عقبة ابن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب , فإنما هو استدراج , ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما آوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون )) . [ الأنعام 44 ] رواه أحمد ( 145/4 ) بإسناد صححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 413 ) .
ولو كان للكفار في دنياهم متعة ما , فإنه ليس لهم سواها ؛ كما قال سبحانه :(( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألاّ يحعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم )) [ آل عمران 176 ] , وروى البخاري ومسلم قصة دخول عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته , فحكى تعجبه من تقشفه صلى الله عليه وسلم وقلة متاعه فيه , ومما جاء في قوله رضي الله عنه :" فدخلت عليه , فإذا هو مضطجع على رمال حصير(1) ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكىء على وسادة من أدم حشوها ليف (2) فسلمت عليه ...فجلست حين رأيته تبسم, ثم رفعت بصري في بيته , فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة (3) , فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك ؛ فإن فارس والروم وسّع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله , وكان متكئا , فقال : أو في شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا , فقلت : يا رسول الله استغفر لي " الحديث , وفي لفظ لمسلم أنّ عمر قال :" فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير , فجلست , فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره , وإذا الحصير قد أثّر في جنبه , فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا (4) في ناحية الغرفة , وإذا أفيق معلق , قال : فابتدرت عيناي , قال : ما يبكيك يا بن الخطاب ؟ قلت : يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبك , وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى , وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار , وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته , وهذه خزانتك ؟ فقال : يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا " .